أدباء، وزراء-د.نجيب العوفي
طنجة/الأدبية، الجريدة الثقافية لكل العرب. ملف الصحافة 02/2004. الإيداع القانوني 0024/2004. الترقيم الدولي 8179-1114 

 
عوالم سردية

أدباء، وزراء

  د.نجيب العوفي    

أقدم هنا صفة أدباء على صفة وزراء، لأن الأدب أنقى و أبقى من الوزارة، و لأن الوزارة، و ما شاكلها من رفيع المناصب و المراتب، عرض زائل ومنصب حائل، أما الأدب فهو قيمة ثابتة وخالدة عابرة للأزمنة و الأمكنة وموحدة بين الناس على اختلاف أجناسهم و مللهم و نحلهم، و كم من وزراء أصبحوا في خبر كان، لكن الأدباء باقون بإبداعهم و مقيمون دائمون في ذاكرة التاريخ.
وفي تاريخنا البعيد و القريب، أدباء ومبدعون تقلدوا أعلى المناصب و تسنموا أرفع المراتب، لكن لم يعرفوا ويشهروا إلا بأدبهم و إبداعهم. أما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض.
نستحضر هنا، على سبيل المثال، من التاريخ البعيد، عبد الله بن المعز، الخليفة العباسي الذي تقلد الخلافة ليوم و بعض يوم فكانت عليه وبالاً. لكن إبداعه الأدبي خلد اسمه على مر الأزمان، من خلال ديوانه الشعري وكتابيه الرائعين،(كتاب البديع) و (طبقات الشعراء).
ونستحضر من التاريخ القريب، بشارة الخولي المعروف بالأخطل الصغير، الذي تقلد منصب رئيس الجمهورية اللبنانية، لكن لم يعرف في ذاكرة الأجيال، إلا بشعره الرفيع و صفته الشعرية السائرة (الأخطل الصغير).
والأمثلة كثيرة، من هنا و هناك، و عندنا في المغرب، استرعى الانتباه  في الآونة الأخيرة و تحديدا بعد حكومة التناوب كثرة الأدباء- الوزراء، بعد أن كانت الوزارة حكرا على البيروقراط و التكنوقراط وذوي الشوكة في الأمة. وهي ظاهرة ليست جديدة تماما، ففي حكومات سابقة، تقلد مثقفون أدباء و علماء مرموقون مناصب وزارية حساسة، نذكر منهم على سبيل المثال، شيخ الإسلام د.بلعربي العلوي و علال الفاسي و المكي الناصري و أحمد أباحنيني و محمد العربي الخطابي و عبد الكريم غلاب و محمد العربي المساري و عبد الكبير العلوي المدغري..
لكن بعد حكومة التناوب التي دشنها عبد الرحمان اليوسفي باسم الاتحاد الاشتراكي، أصبحت ظاهرة الأدباء- الوزراء، ظاهرة أدبية- سياسية، لافتة للأنظار ومثيرة للفضول بكل المقاييس، ففي ظرف وجيز تناوب على المقاعد الوزارة، أدباء مغاربة معروفون، كان الشأن الأدبي و الثقافي شغلهم الشاغل، وبين عشية وضحاها، أصبح تدبير الشأن العام، شغلهم الشاغل، نذكر منهم، محمد الأشعري و أحمد التوفيق و ثريا جبران وبنسالم حميش..
ومعظم هؤلاء استهوتهم "الرواية" وهم فوق كرسي الوزارة الوثير، أو بالأحرى، فوق صفيحها الساخن، فيما خلا المسرحية ثريا جبران.    ترى، ما هي حدود الائتلاف و الاختلاف و التوافق و التضاد بين الأديب و الوزير في حال هؤلاء؟
وبعبارة، هل صان هؤلاء هامش وشرط الحرية الإبداعية و"العدالة الشعرية" حسب عبارة إيليوث، أم نكثوا وخرقوا هذا الهامش و هذا الشرط؟ هل بقي الأديب محتفظا بجوهره الأدبي بعد الاستوزار، أم تحول خلقا آخر؟ ولا تنسى أن "الوزير" لغة، من الوزر أي الحمل الثقيل أو الإثم، و لا تخلو الوزارة من الأعباء الثقيلة ومن "الآثام" أيضا. كما لا يسلم الوزير من القيل و القال.
وفي حدود ما قرأت من أعمال أدبية لاحقة لهؤلاء الأدباء- الوزراء، وبخاصة الروائية، فقد كتبوا و أبعدوا على السجية و مارسوا حرية الانتقاد و الإبداع بلا رقيب أو حسيب، وخرقوا كثيرا من التابوهات و الاجتماعية و الأخلاقية، لأنه في حضرة الإبداع تحضر العدالة الشعرية كما قال إيليوث. وفي حضرة الإبداع يتحقق "التطهير" catharsis كما قال أرسطو.
والملاحظ، أن الذي يتغير في الأديب- الوزير، ليس أدبه و إبداعه بل الذي يتغير فيه هو سلوكه و تصرفه حيث يبدو على النقيض أو على جفوة من إبداعه ومبادئه و شعاراته، وهذه إحدى آفات و جنايات السياسة على الأدب، بما يستدعي التفكير جديا في ضرورة حفاظ الأديب على ميثاق الشرف الأدبي وابتعاده عن تحمل المسؤوليات الحكومية الحساسة والظرفية.
لأنه منذور لمهام سامية أخرى، نبيلة و جميلة، هي التي اختارها منذ البدء، قدرا مقدورا له وكل ميسر لما خلق له.



 
  د.نجيب العوفي (2013-03-16)
Partager

تعليقات:
أضف تعليقك :
*الإسم :
*البلد :
البريد الإلكتروني :
*تعليق
:
 
 
الخانات * إجبارية
 
   
   
مواضيع ذات صلة

أدباء، وزراء-د.نجيب العوفي

متابعات  |   ناصية القول  |   مقالات  |   سينما  |   تشكيل  |   مسرح  |   موسيقى  |   كاريكاتير  |   قصة/نصوص  |   شعر 
  زجل  |   إصدارات  |   إتصل بنا   |   PDF   |   الفهرس

2009 © جميع الحقوق محفوظة - طنجة الأدبية
Conception : Linam Solution Partenaire : chafona, sahafat-alyawm, cinephilia